إضاءة حول المثال في درس الفلسفة

إضاءة حول المثال في درس الفلسفة

من المثال المُرْتَجَل إلى المثال الوظيي. 

درس في المثال أم مثال في الدرس. 


يلجأ مدرس الفلسفة في دروسه للأمثلة باعتبارها دعامات ديداكتيكية  مرئية، يوضح من خلالها صعوبة خطابه ويبسط تجريديته، إذ يُسهل عليه عملية تصريف القدرات والكفايات المستهدفة وتدبير التَّعَلُّمات وتنزيلها.


يعد المثال آلية خاصة وحدث ملموس، يمكن من إبراز فكرة فلسفية أو تضمين مفاهيمي له طابع مجرد، لكن ذلك لا يعني في جوهره أن المثال يمكن أن يعوض الفكرة أو المفهوم وإنما يعني فقط استدعاءه بطريقة وظيفية تراعي مركزية الفكرة وأهميتها؛ وذلك لأن الهدف من اختيار المثال، سواء أكان إرشاديا أو تمثيليا أو تاريخيا أو واقعيا، وبمعزل عن تنوع أشكاله واختلاف أصوله، هو الإقرار بمعنى الفكرة وإثباتها، نفيا أو تجاوزا أو توكيدا.


إن التوظيف الجيد للمثال من طرف المدرس يساعد المتعلمين، في إطار تطوير مهاراتهم وقدراتهم، على استدعاء الأمثلة وتوظيفها في كتاباتهم الإنشائية بنحو مستقيم ومندمج في منطق برهاني وبكيفية سليمة منهجيا.


كيف يتحدد، إذن الوضع الاعتباري للمثال في الخطاب الفلسفي؟ ما الذي يميزه حجاجيا ويمده بخصوصيته الفريدة؟ هل استحضار المثال في الدرس الفلسفي اعتباطي خاضع لمنطق الصدفة أم أن له تخطيط ديداكتيكي مُحْكَم؟  


إن تحقيق مبتغى المثال في الدرس الفلسفي يقتضي من المدرس أن يفكر فيه بشكل مسبق؛ فيضع له بطاقة تقنية خاصة، ويُعِدّ له قبليا، لكي لا يسقط  في اعتباطية عرجاء تفرغ المثال من خصوصيته وتحيد به عن غايته الحقيقية  أو في ارتجالية عمياء تفقد معنى الفكرة وتُضيع عناصرها الجزئية. إن التخطيط المسبق للمثال هو أمر منهجي لا يجعله مجرد ضيف يرحب به ظرفيا في الدرس وبشكل مفاجئ ولكنه دعامة رئيسية ينبغي العناية بها جيدا واختيارها بشكل دقيق.

إن جهد المدرس وفرادة درسه تكمن في قدرته على اختيار الأمثلة التي تجعل من خطابه المجرد والمضجر أحيانا، ضياء يشع وضاحة وبساطة. إلا أن ذلك لا يعني تمييع الدرس وتسذيجه وجعله درس مثال خالص ولكنه يقصد إلى اختيار دُرْبة مناسبة توازن العلاقة بين الفكري المجرد والواقعي الملموس، بين غموض الأفكار والمفاهيم والإشكالات الفلسفية وبين وضوح الأمثلة وبساطتها؛ فالمثال لا يحل مكان الفكرة أو المفهوم بقدر ما يبسط تفاصيلها وعناصرها وينقلها إلى متعلم هو أقرب إلى الواقعي الملموس منه إلى المجرد المطلق.


لا يقوم المثال مقام الخطاب الفلسفي كله ولا يمثل الاستدلال والحجاج ولا يلغي البرهان؛ وإنما يندرج في إطار عملية برهانية طويلة ومعقدة ويُوظَّف خلالها لتجسيد الفكرة أو لتدعيم نتائج العملية البرهانية العقلية التي سبقته؛ لذلك يكون من المفيد اجتناب جعل المثال منطلقا حاسما يلغي عملية التفكير أو ينسف الخطاب الفلسفي أو يعوض الإطار الحجاجي. وبالتالي فاستثمار المثال يتحدد في إطار عقلي مشترك وسليم يتجاوز الشيوع المطلق وينفلت، في نفس الوقت، من اللبس والغموض؛ فهو ينبغي أن يخضع للغة فلسفية صارمة ولكن تصريفه يجب أن يتم بقفاز ناعم، يربط الفكرة بواقعها مادامت الفلسفة، في أقصى تعريفاتها، هي تفكير حول الواقع، تفكير في الحدث بالمفارقة.  


في النهاية نقول: إن محاولة إدراك كيفية توظيف المثال تطرح من الأسئلة الغامضة ومن الالتباسات المنفرة أكثر منها تقدم إجابات واضحة، لذلك فاستدعاء المثال في درس الفلسفة يقتضي تخطيط جيد وتوصيف إجرائي مناسب واستحضار للخلفية النظرية والبيداغوجية والديداكتيكية التي يستعين بها المدرس في التخطيط للقدرات والكفايات المتوخاة من درسه. إنه مثال في الدرس يفيد بقدر ما يوضح ويُستعمل بقدر ما يبين ويستثمر بقدر ما يحقق المُنتظر منه.



بــــــلال مـــــراوي: طالب باحث وأستاذ مادة الفلسفة بالتعليم الثانوي التأهيلي.


أكتب تعليقا

أحدث أقدم