قراءة في رواية " الحي الخطير" للمؤلف محمد بنميلود.


  الحفر بالسواطير


     إن روايةَ " الحي الخطير" لـبنميلود لهي رواية جديدة الشكل كتابة، ومضمونًا؛ إذ يتحلى فيها زمن الحثالات كعنصر سائد بين الأزمنة المثالية، وأنها مليئةٌ بالصدق الفاحش، والمعشش بين أجنحة العاصمة "الرباط".

لا يتجاوز عدد صفحات الرواية (193)، فهي رواية قصيرة، وتعد أول إبداع للرجل الذي يواصلُ تتبيث نفسه كوجه من وجوه الرواية الواقعية المغربية التي كان تسيدها كلّ من محمد شكري، ومحمد زفزاف، ثم المرحومة مليكة مستظرف...
.
تحكي الرواية عن مراد "الذات الساردة" الذي حاول استرجاعَ أحداث اليسار إثر سنوات الرصاص التي عرفها المغرب، وتاريخ الحثالات التي هاجرت إلى هامشِ العاصمة، ومدى تغللها فيه. وقد بدأ السارد الأحداث من السجن وانتهى إليه؛ إذ فتح عين الماضي بالحديث عن خاله، وتركته الكُتبية، ومصيره، لينتقل بعدها للحكي عن أبناء الحي "العصابة" الذين حفروا بسواطيرهم طريقًا نحو المجد والترف "الرياض"، ودون إهمال منه للعلاقات والممارسات المتلولبة في أكواخ الحي، وأفرانه، ليمنح ذاته والقارئ فرصة توعوية للإشكالات المترامية في الحي الخطير.

كما أن الشخوصَ تعددت في الرواية، لدرجة أن البطل والهامش توسع حضورهما كثيرًا، إلا أنها تشابهت في المصير؛ فأكثرهم اتخذ وجهة الهروب نحو التخمة الدنيوية للقفز إلى سفينة النجاة إلا شخصتين - أعتقد - أنهم جانبوا هذا المتوقع. 
ولنبدأ بشخصية "العربي"؛ القاتل، والناكح لجثت قتلاه، وثم "الفريني" الانطوائي، فلقد كان العربي الشخصية الغريبة عن تصاورات شخوص الرواية، لدرجة أن الكاتبَ وصفه في إحدى ثناياها، بقوله: " لقد كان العطل المكين لتلك المكينة التي لا يمكن أبدًا إصلاحه"، ثم من الغرابة أن الكاتب ساوى كلبته "لايكة " به في كل الصفات، إذ أنها عاشت القانون، والتقاليد والأعراف ذاتها. وأما شخصية سليمان ابن العربي التي كانت غائبةً عن ساحة وأحداث الحي، فهو متلونٌ؛ تجده مرة يصلي، وأخرى يعربد بعد سكر، ويتعارك دون سبب، فيصفه الكاتب بـ:" لقد كان غائصًا في عالمه الدخاني فقط، لا يغادره أبدًا ولا يجد راحته وسكينته سوى داخله"، كأن سليمان هذا خالف أباه في جنحه، وحركته، ولكنه التزم لاهيةً تصرط عمره ساعة بعد ساعة.
.
والمكان يعدُ أكثر عنصر يخدم الحبكة؛ لتوحشه، وغرقِ أهله في تبني الحقد، والعنف بكل أشكاله؛ أي أنّه مكمل للتوحش الذي رسمه للشخصيات وأحلامها، إذ هذه الحفر قادرة على تصدير كل نفس خائرة على البناء، وقادرة على النهش والهدم، ليتبث أن رحلةَ العصابة، ومن شابهم هدفها هو الهروب نحو التخمة. وزاد من التوحش ليصفه بمكان للحرب، فقد كان كل فرد يحمل سلاحًا مخافة أن يقتل، وحفر من الوصف ليريك عيش الحي؛ فمداخله الدعارة والحشيش التي عدت من أهم مصادرهم، وقد بالغ الكاتب في وصف الجو، برسم رهيب، إذ ينثر برعب:" ليس ضروريًا أن تعرف كل شيء في الحرب، بل كل ما عليك معرفته هو القدرة على تسديد الطعنات قبل أن تسدد إليك".

ثم إن لغة الكاتب كانت متسمة بخوارزم المهمشين، فهي لغة لا استرسال فيها، إذ كل لفظة متراصية لتحقيق المعنى المتوخى؛ إنه لغوي يحفر كلماته في صخر الواقع بألوان من القهر المحسوس، وغير المحسوس. فهي تتجاوز الحدود والموانع، وحتى الذوق السائد، ومن إبداعات الكاتب، فقوله: " يليل الليل"، وهي اشتقاق اتسع لندرك مساحة شساعة الليل معه، وإن كان هذا الذخيل (يليل) لم يرضي أبناء سيبويه. 

قد أبدع بنميلود عملا فنيا متناسقًا، فسرده كان ذو أسلوب جديد، كما قد قسّم روايته إلى أجزاء، سمى بعض منها وتجاوز الباقي، لتكون هذه الأجزاء أحداثا عميقةً تتسم بالبعد الدلالي والنفسي والاجتماعي، لتكشف لك قوة حبكتها، ودقة صناعتها؛ المتمثلة في سرد تاريخ "الحازقين" بدل الهروب من السجن، وتبصر النعيم. فلوك معي ببهجة هذه الجملة الاتساعية المعنى: "ولا يعرفون أني مثل شظية قنينة خمر محرمة مقذوفة على رصيف مترب، مذببة الحواف، إن كسرت لا يزيد ويضاعف سوى عدد الشظايا المذببة والحواف الحادة والجارحة لكل من يفكر في بلعها أو مجرد الاقتراب منها". ولتردد إن "الحي الخطير" رواية التذكر المرعب الذي يتجاوز القضايا الشكلية المزيفة؛ لغويا وفكريًا، بل حتى سياسيًا.

بقلم : محمد القاسمي 

أكتب تعليقا

أحدث أقدم